حق الدوا .. على مين ؟
يتكلم الكاتب والباحث التراثى شوقى عبد الحكيم عن نفسه ، وعن رحلته فى جمع
التراث ، والحكايات ، والمأثورات ، والمواويل
ليحكى لنا حكاية تراثية
من أفواه الناس ، معبره عن الأحوال
لاجتماعية فى هذا الوقت المبكر من
منتصف القرن 19
ونتركه ليتحدث عن نفسه
..
فى تلك الأيام الخوالى كنت أسعى لجمع ماثوراتى من
أفواه الناس أينما وجدوا داخل أعماق الأسواق من تجار بهائم
.. جمال وحمير يمتطوها
مشتريها ليجربوها ويتعرفوا عطبها على طول الطرق الغير ممهده ، وقد يختفى بعضهم
بالحمار عن الأنظار
متخذا طريقه الى كفره او عذبته ، ويظل صاحب الركوبة منتظر عودته ومن حوله يطمنوه
- اصبر يابو فلان . كل
واحد حريص على قرشه .
الى ان تحواط المخاوف
صاحب الحمار وتدب مدوية فى قلبه بأسى
فيضرب كف بكف
-
عليه العوض ومنه العوض
-
- يعوض عليك
الا انه يصرخ من حرقته
:
انا مقبلش العوض
أجل ... فالعوض تابو
... مرفوض
كنت أسعى لجمع مأثوراتى
وموادى الجمعية الشفاهية بكل اشتهاء، متعرفا أماكنها ، حتى داخل المقابر وأضرحة
المشايخ والأولياء،
وعند عيون المياه الراكده ، وحيث مضارب البدو والغوازى والحلبية التى استحالت الى حلبسه
كنت أقوم من نومى
مفلوقا مع مطلع النهار بدلا من التوجه الى المدرسة ، أقنع صديقى ومساعدى بالتوجه الى
كفر معين أو عزبة أو احدى الهوارات أو وحده معينة من الزرابى الفقيرة – جمع زربى –
رغم ثراء الطبيعة وعطائها
فى الارض المشجرة كمثل
غابة عميقة الازدهار والاخضرار .
وفى مطلع ذلك النهار
كنت كمثل الصياد يتعرف مكمن فرائصه قلت لمرافقى :
-
نروح عزبة الاصفر
-
- لصفر .. ودى فيعا حاجه .. د
كفر
-
أقنعته خلال الطريق لملتوى
ميمنه وميسره .. كحكاوى الليل الاستطرادية
-
- نشوف ياحربى
-
- نشوف
-
ما ان شرفنا على العزبة ، حتى
هالنا سحب الدخان من الجرجوب والجلة وبقايا الشجرالمتحجر الذى يستخدوه فى الطبيخ
وبالفعل بطننا كركبت من
روائح الاطبخة المتصاعدة من داخل الدور الطينية الواطئة ، وعرفت من فورى
ان اليوم يوم سوق
البلدة
طابخين
حططنا رحالنا أمام مصطبة
بيت تساقط جيره التركوازى ، وعلى الفور تجمع حولنا صبية وبنات ونساء عجائز
حملن الينا الماء
البارد وفى أعقابه كوبيات الشاى ثلاث ادوار تفوح برائحة النعناع
-
انتوا اغراب ؟
-
- أجل
-
- عايزين حاجه ؟
-
- ايوه .
- الموجود .
تقاربت ورؤسهن فى تندم
وهن يهمسن من حولنا .
ائلين ... شحاتين ..
على باب الله .
تسائل حربى صاحبى
امال فين الرجالة ؟
- فى سوق الخميس والعيطان
ثم اوضح لهن وكان ماهر فى
التقاط لغوهن وتعبيرهن بما يضفى الاطمئنان
الكافى ، ليتحلقن حجولنا
من كل صوب على المصطبة المفروشة بالحصر الملونة .
قال باننا لسنا شحاتين
ولا سائلين او طالبى حسانات ، والحسنة الوحيدة التى نطلبها مجرد الاستماع الى
حكايتهن
وامثالهن وندبهن ، فهذا
هو عملنا . قال
- كارنا
- حودجيه ... يعنى
قلت
يعنى .. اى حاجه
تسألن اكثر
- زى ايه ؟
قلنا
- اى حاجه بتحصل . غنوه
.. سهراية .. حدوة ندب .
- ندب ... تبقوا مباحث
- ابدا .. ابدا
قلت احدهن وكانت موشومة
الوجه والساعدين
- تكنوش بياعين كلام .
قلت
- احنا بنشترى
هنا تساءلن مطولا
وارتفعت اصواتهن فى نفس واح
- ام مقبلة مفيش غيرها
.. شايله كثير .. واعره
- مافيش غيرها فى
العزبة .. عارفه كل حاجه .. شعر ندب يقطع القلب .
وجكت لى احدهن حكاياتها
- يابنى دى ماكنتش
كده .. كانت بحبوحه وصييته .. صوتها يجيب
من اخر الدنيا
صوتها حلو وكانت تحنن فى
الحج .. ومافيش زفة لعروسة ولا مظاهر ما تزفوش
قلت : بفلوس
قالوا : ابدا .. ابدا دى
هى كده بحبوحه .. ماتحبش النكد ابدا ولا الندب
- امل ايه اللى حصل ؟
- امل ايه اللى حصل ؟
عاد وفد من بنات وصبيان العزبة ليعلنوا فى احباط
- مش راضية تيجى
- ليه
اصلها قلبت على ندابة
من يوم ما .
انتصبت واقفا مقررا
الذهاب اليها . إلا ان النساء اقنعنى لا جدوى للمشوار فهى مقطوعة لا تحداث احد
بعد اللى حصل
- ايه اللى حصل
وحكت لى المراة المسنة
حاملة الوشم حكايتها :
- يابنى دى كانت ماتبطلش ضحك ولا نوادر حلوه ،
غنا ، فرفشة ، قبل اللى حصل . قبل ابنها اليتيم
اللى كانت بتربيه ما
يموت .
حل صمت مفاجئ عم الجميع حتى الاطفال الصعار :
اصل ابنها جالو .. العيى
.. مرض ومسكوا ورقد طريح الفرن سنين
صمت
ولما بعتنا جبنالوا
حكيم من المدينة .
وميل عليه وكشف
بصلنا واحنا حواليه
وقال :
-- حق الدوا على مين ؟
وسمعه ابنها العليل عيط
وطق مات
ساعتها جاءت ام مقبلة
.. تدب بعكازها منشده :
أم طق العليل مات
ابنى ..
من قولة :
حق الدوا على مين ؟
كان شوقى عبد الحكيم
يكرر هذه المقولة بستمرار
طق العليل مات
لما الطبيب سأل :
حق الدوا على مين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق