الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

أسامه الزينى .. أفتقدك حتى البكاء يادكتور لطفى سليمان

أفتقدك حتى البكاء يا دكتور لطفي سليمان

لا أعرف انسحابيين مثلي يلوذون بالهرب من كل شيء هذه الأيام، في فيلم قديم لنصر أكتوبر، أو الثورة (أقصد انقلاب 26 يوليو 1952)، أو ناصر 56، أو السادات، أو حتى النمر الأسود، بحثاً عن لحظة انتصار مفقودة، تعوض الهزيمة المهينة التي نعيشها على أيدي تجار وسماسرة يناير ويونيو ورابعة إلى آخر قائمة وجوه ربيع السَّارِين المصري الخانق القاتل لكل شيء حي في دواخلنا. وضمن نوبات الانسحاب العميقة التي أصبحت تعتريني من آن لآخر، حدث بالأمس أنْ قفزت صورته إلى ذهني فجأة من قائمة الموتى الذين أتجاهل غيابهم في لاشعوري البائس.. الدكتور لطفي سليمان –رحمه الله-. لا أعرف إن كانت الأجيال الجديدة في مدينتي القديمة (سنورس) تعرف عنه شيئاً أكثر من كون المدرسة الثانوية في المدينة التي لا يشعرون نحوها بأي انتماء، تحمل اسمه، (مدرسة لطفي سليمان الثانوية)، في لفتة نادرة من زمن مبارك الذي لم يكن يلتفت لأحد ولا يعرف قيمة لأحد، لكن قامة الرجل العالية فرضت احترامه وتقديره على الجميع، حتى مسوخ عهد مبارك، الجميع انحنوا أمام الاشتراكي الذي طبق الاشتراكية على نفسه على نحو بالغ القسوة؛ فلم يصب قدراً من الثراء وهو الجراح الحاذق في وقت شح فيه من "يفكون الخط"، والقيادي النزيه في وزارة الصحة منجم الأرصدة البنكية لكبار المختلسين، اليساري العابد الناسك الذي لم يبدل سيارته العتيقة التي تحولت إلى مَعْلم من معالم المحافظة من فرط قدمها.. ولم يتخذ من يساريته سبيلاً إلى الخنا والرذيلة، فكان أحرص على التابو الديني والاجتماعي والثقافي من صناديد الرجعية والأصوليين. لم أصدق أن الجراح الشهير والشخصية العامة التي طالما كان جدي وجدتي ووالدتي يتحدثون عنها بتقدير ومحبة بالِغَين، سيستقبلني يوماً في مكتبه واقفاً متهلل الوجه لمصافحتي أنا الشاب الصغير المبتدئ في كتابة الشعر.. حالة تواضع جم من القيادي السياسي والقطب القومي الأمين العام لحزبين؛ التجمع، ثم العربي الناصري.. الفارس الذي غَشِيَ كلَّ وَغَى وعَفَّ عن كلِّ مَغْنَم. كانت مصر ببشرها وحجرها همه الأول والأخير، صالح الجميع في حبها، ولم يخاصم سوى حظوظه منها، أحب الجميع على تعدد أطيافهم، ولم يقدر على كراهيته حتى أهل الكراهية منهم، أو على الأرجح أسروها في بطونهم. صوته الخفيض كان يجعلنا دائماً حريصين على خفض أصواتنا لديه، فتعلمنا منه خفض الصوت.. ابتسامته الدائمة كانت تحفظ إيقاع ابتساماتنا على وجوهنا، فتعلمنا معه البشاشة للآخرين أياً كانت الضغوط التي نواجهها.. إصغاؤه لأحاديثنا التي لم تكن تضيف له شيئاً علمنا فن الإصغاء للجميع لقيمة الإصغاء لا لقيمة المتكلم أو الكلام.. مناداته كلاً منا باسمه مسبوقاً بكلمة (أستاذ) كانت تكسو وجوهنا بحمرة خجل لازمتنا حتى اليوم كلما ذكر في مجلس اسم (الدكتور).. ولم يكن مُهِماً أن تقول بعد كلمة دكتور اسمه، فلم يكن يخطر في بال أحدنا أن المقصود بكلمة دكتور أحد سوى الدكتور لطفي سليمان، أو أن هناك شريكاً له فيها، قبل أن تمتلئ علينا الدنيا دكاترة. المفاجأة يا سادة أنني على حظوتي لديه وسؤاله الدائم عني لم أكن ناصرياً ولا قومياً. كان يعلم حرصي على أن أبقى حراً لا أتقيد بأي برنامج حزبي قد أصطدم مع بعض مبادئه أو مواقف القائمين عليه، وكان حريصاً على أن يحفظ لي هذا الحق.. أحرص من أصدقائي أسامة نصر وطارق سيد علي ومحمد البجيجي وكمال شوقي.. قال لهم ذات يوم وهم يحاولون إحراجي في حضوره لأوقع استمارة انضمامي للحزب، محبة منهم في صديقهم الآبق: "أسامة كالعصفور.. والسياسة كالقفص تحبسه وتحرمه التغريد.. دعوه يغرد وهو لا يتأخر عنا". رحمة الله عليك يا دكتور لطفي.. أصبحت من بعدك كالخفاش أحلق في الظلام، خشية أفواه بنادق الصيد المحشوة بالكراهية في أيدي جهال مرضى موتورين ينظرون إلى كل صاحب رأي مخالف بعين مسكونة بالسعار.. وكأنك يوم رحيلك المهيب اصطحبت معك زمن الرجال.. وتركتنا لهذا العفن.

(أسامة الزيني)
See translation
أفتقدك حتى البكاء يا دكتور لطفي سليمان


لا أعرف انسحابيين مثلي يلوذون بالهرب من كل شيء هذه الأيام، في فيلم قديم لنصر أكتوبر، أو الثورة (أقصد انقلاب 26 يوليو 1952)، أو ناصر 56، أو السادات، أو حتى النمر الأسود، بحثاً عن لحظة انتصار مفقودة، تعوض الهزيمة المهينة التي نعيشها على أيدي تجار وسماسرة يناير ويونيو ورابعة إلى آخر قائمة وجوه ربيع السَّارِين المصري الخانق القاتل لكل شيء حي في دواخلنا. وضمن نوبات الانسحاب العميقة التي أصبحت تعتريني من آن لآخر، حدث بالأمس أنْ قفزت صورته إلى ذهني فجأة من قائمة الموتى الذين أتجاهل غيابهم في لاشعوري البائس.. الدكتور لطفي سليمان –رحمه الله-. لا أعرف إن كانت الأجيال الجديدة في مدينتي القديمة (سنورس) تعرف عنه شيئاً أكثر من كون المدرسة الثانوية في المدينة التي لا يشعرون نحوها بأي انتماء، تحمل اسمه، (مدرسة لطفي سليمان الثانوية)، في لفتة نادرة من زمن مبارك الذي لم يكن يلتفت لأحد ولا يعرف قيمة لأحد، لكن قامة الرجل العالية فرضت احترامه وتقديره على الجميع، حتى مسوخ عهد مبارك، الجميع انحنوا أمام الاشتراكي الذي طبق الاشتراكية على نفسه على نحو بالغ القسوة؛ فلم يصب قدراً من الثراء وهو الجراح الحاذق في وقت شح فيه من "يفكون الخط"، والقيادي النزيه في وزارة الصحة منجم الأرصدة البنكية لكبار المختلسين، اليساري العابد الناسك الذي لم يبدل سيارته العتيقة التي تحولت إلى مَعْلم من معالم المحافظة من فرط قدمها.. ولم يتخذ من يساريته سبيلاً إلى الخنا والرذيلة، فكان أحرص على التابو الديني والاجتماعي والثقافي من صناديد الرجعية والأصوليين. لم أصدق أن الجراح الشهير والشخصية العامة التي طالما كان جدي وجدتي ووالدتي يتحدثون عنها بتقدير ومحبة بالِغَين، سيستقبلني يوماً في مكتبه واقفاً متهلل الوجه لمصافحتي أنا الشاب الصغير المبتدئ في كتابة الشعر.. حالة تواضع جم من القيادي السياسي والقطب قومي الأمين العام لحزبين؛ التجمع، ثم العربي الناصري.. الفارس الذي غَشِيَ كلَّ وَغَى وعَفَّ عن كلِّ مَغْنَم. كانت مصر ببشرها وحجرها همه الأول والأخير، صالح الجميع في حبها، ولم يخاصم سوى حظوظه منها، أحب الجميع على تعدد أطيافهم، ولم يقدر على كراهيته حتى أهل الكراهية منهم، أو على الأرجح أسروها في بطونهم. صوته الخفيض كان يجعلنا دائماً حريصين على خفض أصواتنا لديه، فتعلمنا منه خفض الصوت.. ابتسامته الدائمة كانت تحفظ إيقاع ابتساماتنا على وجوهنا، فتعلمنا معه البشاشة للآخرين أياً كانت الضغوط التي نواجهها.. إصغاؤه لأحاديثنا التي لم تكن تضيف له شيئاً علمنا فن الإصغاء للجميع لقيمة الإصغاء لا لقيمة المتكلم أو الكلام.. مناداته كلاً منا باسمه مسبوقاً بكلمة (أستاذ) كانت تكسو وجوهنا بحمرة خجل لازمتنا حتى اليوم كلما ذكر في مجلس اسم (الدكتور).. ولم يكن مُهِماً أن تقول بعد كلمة دكتور اسمه، فلم يكن يخطر في بال أحدنا أن المقصود بكلمة دكتور أحد سوى الدكتور لطفي سليمان، أو أن هناك شريكاً له فيها، قبل أن تمتلئ علينا الدنيا دكاترة. المفاجأة يا سادة أنني على حظوتي لديه وسؤاله الدائم عني لم أكن ناصرياً ولا قومياً. كان يعلم حرصي على أن أبقى حراً لا أتقيد بأي برنامج حزبي قد أصطدم مع بعض مبادئه أو مواقف القائمين عليه، وكان حريصاً على أن يحفظ لي هذا الحق.. أحرص من أصدقائي أسامة نصر وطارق سيد علي ومحمد البجيجي وكمال شوقي.. قال لهم ذات يوم وهم يحاولون إحراجي في حضوره لأوقع استمارة  انضمامي للحزب، محبة منهم في صديقهم الآبق: "أسامة كالعصفور.. والسياسة كالقفص تحبسه وتحرمه التغريد.. دعوه يغرد وهو لا يتأخر عنا". رحمة الله عليك يا دكتور لطفي.. أصبحت من بعدك كالخفاش أغرد في الظلام، خشية أفواه بنادق الصيد المحشوة بالكراهية في أيدي جهال مرضى موتورين ينظرون إلى كل صاحب رأي مخالف بعين مسكونة بالسعار.. وكأنك يوم رحيلك المهيب اصطحبت معك زمن الرجال.. وتركتنا لهذا العفن.

(أسامة الزيني)