الاثنين، 29 سبتمبر 2014

الكرسى .. قصة بقلم عماد هلال



الكرسي


تعودت هى ان تطل من غرفة شقتها كل مساء على فناء قسم الشرطة
حيث كانت شقتها التى ولدت بها تقبع خلف قسم الشرطة لا يفصلهما
إلا حديقة منزل هذا الطبيب المشهور ببلدتها ، والذى رحل تاركا هذا
المنزل الصغير وسط حديقة لا تحتوى الا على شجيرات النخيل المتراصة
ثم أغلق المنزل بعد موته ، البعض فسر هدا الغلق بهجرة ابنتيه الوحيدتين الى أمريكا ليظل
المنزل مغلق لسنوات طويلة لا يقترب منه احد وكأنه مغلق بفعل الزمن .
فى بداية الأمر  حولت اتجاه الكرسى ناحية البلكونة لتستمتع بهذا الفضاء أمامها
على عكس أبيها  الراحل والذى كان يعطى ظهره للأمر برمته ، ولم يحاول أبدا
ان يتوجه بكرسيه العالى الكبير بلونه الأصفر ومسانده الخشبية  الشبيه بكراسي المقرئين
فى سرادقات المئاتم ،   وعلى الرغم من شكله الموحى  بالحزن الا انه كان لا يستريح  الا عليه ، خاصة فى السنوات الاخيرة من عمره .
 فيتأمل حياته وأخرته حين يقرأ الفتوحات المكية "لابن عربى " او الإشارات" لابى جيان التوحيدى "
وكان يرى ولو من خلال مكنون نفسه أن هذا الكرسى مناسب تماما  لهذا الفصل  الأخير من حياته قبل انسدال الستار
على  حياة لم تكن متقلبة ، بل كانت هادئة كصفحة نهر لم يرى أبدا فيضان  ، وظل الكرسى فى اتجاه الداخل حتى رحيله .
قررت هى وبعد أربعين الأب أن تقضى  وقت وحدتها فى هذه الشقة الصغيرة  تتأمل الحديقة  والمنزل المغلق سارحة الذهن فى أهله
مرة وفى نخيله مرات ، كانت تتسلى بعددهم أحيانا ، أو بتكرار السؤال.. لماذا هذا النخيل لا يعطى بلح ؟
كانت تفسر أمر عقمه لأنه وحيد لا يرعاه احد ، أو لا يوجد من ينتظر بلحه فتوقف عن العطاء ، وغالبا تفكر فى أبيها الراحل والذى تركها
وحيده لا أم ولا أخ وتقارن نفسها بنخيل الحديقة ، ثم تهرب من كل هذا  بالفرجة وتصفح كتب الأب الراحل الذى قضى فترة
ليست قصيرة من حياته بين دفأت  صفحاتها حتى أنها كانت لا تشعر به طوال الليل مثل زاهد فى محرابه .
بعد ان تطور الأمر، وأخذت تدمن الجلوس على الكرسى لساعات متأخرة من الليل ، بدأت تركز نظرها الى  الفناء الواسع  فى
الدور الثانى لقسم الشرطة والتى تقع شقتهم خلفه، لتهتم بأول ملحوظاتها أن الحياة لا تدب فى هذا الفناء إلا فى  الساعات المتأخرة من الليل
تتحرك أشباح ليلية ضخمة الجثة تلبس جلابيب واسعة وتلف رأسها بعمم  بيضاء تنسدل على الكتف تاركه مكانها حول الرأس  ، وتهرول هذه الاشباح تجاه باب الحجرة واضعة
سجائرها المشتعلة على طرف الباب وتغيب بعض الوقت ، لتخرج تكمل هف أنفاس السيجارة  فى استعجال ملحوظ  ثم تواصل
الهرولة تجاه باب الغرفة ، الذى خرج منه ويعود محملا ببعض الأوراق ، فسرت هذا بان ضابط المباحث يطلب بعض الأوراق
وهذا المخبر يذهب ليحضرها كعادة ما كانت تراه فى بعض الأفلام  ، وكانت تكتفى بهذا القدر من الفرجة المملة وتذهب لتنام .
لتصحو مبكرا لعملها فى المدرسة القريبة بشكل ملاصق تقريبا لمنزلها .
وكعادة الخلائق  حين يصابوا بطوفان القلق ، ويذهب طائر النوم من عيونهم  فى الليل ، قامت فجأة من على سريها
متجها الى غرفة الأب ، مرتمية بجسدها على الكرسى الخشبى بعد ان فتحت ابواب بلكونتها  مغمضة الجفون ، الا ان اصوات
صراخ واستغاثات ضربت اذنها ، تخيلت فى بادئ الأمر أنها تهيؤات  كابوسيه ، ففتحت عينها لتتأكد من الأمر  رافعة رأسها
تجاه الاصوات ، فشاهدت جسد معلق فى الهواء لا تعرف له رأس من رجلين  ، ثبتت الرؤية فى عقلها كمشهد تلفزيونى  توقف عنده الارسال ، كادر سينمائى فى بداية التتر
هل هذا جسد شخص معلق فى الهواء ؟ حدثت نفسها
اقتربت تجاه البلكونة وهى تلف نفسها بالرداء الأسود اتقاء البرودة لتتأكد ان الامر بالفعل
صحيح انه رجل معلق من رجليه وهناك من من يمسك جلده لينهال عليه بها ضربا كلما اشار له هذا الضابط الجالس على كرسيه ، مع كل ضربة يعلو صرخ المعلق .
اقشعر جسدها الطرى لهذا  الكادر المهيب ، ودب الخوف ليزاد شعورها بالوحدة  أكثر،  وأن أنفاسها تعلو متسرعة ، تجمدت أمام المشهد لا تستطيع أن تأخذ قرار ، حتى تنبهت وكأن يد الأب تسحبها للدخل ، اتقاء المشاهدة اكثر من ذلك .
لم تنم طوال ليلها ، وكل ما تغمض جفونها ، شعرت بأن حجر "سزيفى"  كبير يكتم أنفاسها فتصحوا منزعجة  ، وكادر التعذيب لا يفارق ذهنها ، وصراخ المعلق يطن فى أذنها .
ذهبت الى عملها شاردة الذهن ، تشعر انه ورقة متكورة يحركها الريح ، لا تتحكم فى أعصابها ، وكانت تحدث نفسها بعد العودة
"هل استطيع مشاهدة هذا الكادر فى المساء مرة أخرى؟ " نامت لتصحو فى المساء وفى نفس الموعد لتشاهد المشهد وتتأمل التفاصيل ، ثم تعود لتنام فى سلام ، وتكررت الأيام وتكررت المشاهد حتى أصبحت جزء من حياتها اليومية ، تجلس على الكرسى الأصفر تنتظر الكادر ، تشاهد ما يعرض عليها ، وتذهب لتنام فى سلام .
قصة : بقلم عماد عبد الحكيم هلال
28 من سبتمبر 2014

هناك تعليق واحد: