حقق ذاتك فى صدق.. لكن كيف.؟
كأن تكون أنتَ. وأن يكون هو هو. وأن تكونى أنتِ أنتِ. وأن أكون أنا كما هو أنا.!
كنت مغرما فى سنى المراهقة بانتظار بدء إرسال محطة صوت العرب فى تمام
الخامسة فجراً.. كنت أفتح الراديو مع الصفارة التى كانت تسبق الإرسال
بدقائق.. كان الصفير ينتهى ليبدأ نشيد "أمجاد يا عرب أمجاد.. فى بلادنا
كرام أسياد..."
هكذا كنت أنتظر افتتاح الإذاعة، بعد فترة الفراغ
التى كانت تبدأ من انتهاء محطة "البرنامج الثقافى" عند الساعة الحادية
عشرة، ومن ثم تحولى بالمؤشر إلى إذاعة "الموسيقى" التى كانت تنتهى عند
الساعة الواحدة فيما أذكر.
أنا الذى سمعت على حين فجأة فى تلك
الأيام، ابتداء محطة صوت العرب بأغنية محمد قنديل "بين شطين وميه..." بدلا
من نشيد "أمجاد يا عرب..." وظللت معتقدا أن إذاعتها كانت على سبيل الخطأ
إلى أن عرفت أنها كانت شفرة إلى جنود بحريتنا البواسل لشن هجومهم على ميناء
إيلات بحسب ما عرفنا بعد سنين من فيلم "إيلات".!
كان الطريق واضحا لأن الرؤية كانت واضحة.. وكانت سمات الشخصية تخلو من أى اهتزاز، فلم تكن أبداً نقشا على الماء.!
ذهب فان جوخ إلى حبيبته، فطلبت منه مازحة أن يقطع أذنه، فقطعها وعاد بها فى لفة ورقية.. ناولها إياها. فتحتها وشهقت.!
شهق بعضنا نفس هذه الشهقة كردة فعل لما قاله الرئيس مرسى مستحضرا بطل الستينيات. أتريد بحق أن تكمل على ما بناه ناصر يا مرسى.؟
هو ذات الاضطراب والتوتر والعجز عن نيل رضاء الحبيبة، فأين كنت تخبئ أذنك وأنت تستحضر شخص ناصر.؟
يطبع السجن بصماته فى داخل شخصيات المساجين ببصمات معينة تحيل عجينتها إلى
مسخ.. يدرك علماء النفس ، وعلماء النفس الإجتماعى مدى حاجة هذا المسخ إلى
إعادة تأهيل قبل خروج المساجين من سجنهم إلى مجتمعهم الذى يكون قد تغير
بأكثر مما حدث فى داخلهم هم أنفسهم من تغيير ومكتسبات سلوكية لا تتوائم لا
مع الضوء ولا مع الحرية فى الخارج.. كنت فى دهشة من إهمال بعض النخبة لهذا
العامل وانصباب اهتمامهم بما قيل عن معاناة الدكتور مرسى من صرع.!
من الممكن أن تخرج علينا عاهرة بما لا تنكره من عُهر فيها وهى ترى انها
أشرف كثيرا من مجتمعها المنافق المرائى الكذوب الذى ينتحل شخصية أخرى بسمات
أخرى غير سماته. هى ترى نفسها على ما هى عليه أشرف من أولئك الذين يتلونون
ويتشكلون على أوجه عدة قد تجعلك تتساءل: هل هذا إخوانى بوجه ناصرى.؟
يذهب الإخوانى ذا الوجه الناصرى يطرق ذات العواصم التى كان يطرقها ناصر،
فلا يُقابل إلا بوجوه ممتعضة، ونظرات شزرة، فيُخيل إليك أنه ذهب إليهم دون
أن يستحم منذ خرج من سجنه.! ويعود خالى الوفاض.!
ألهذا نبهنا
رسولنا الكريم إلى أن المؤمن الحق قد يأتى بالفواحش لكنه أبدا لا يكذب.!
أهناك تناقضا بين محاولتنا لتحقيق ذواتنا فى صدق وبين الكذب.؟ ألهذا كان
الكذب أبشع فى دين الإسلام من القتل والزنى والسرقة...؟
فى إحدى
تلك الليالى، راحت يدى تعبث بمؤشر الراديو عند السحر، بجوار محطة صوت العرب
كان الشيخ المنشاوى يقرأ بصوته الشجى من محطة الكويت:
" ويسئلونك عن الروح، قل هى من أمر ربى..."
"فاستقم كما أُمرت..."
" كلٌ خُلق لما يُسر له..."
شدتنى هذه الآيات شدا فى تلك السن المبكرة، ولكنى توقفت كثيرا ـ وما زلت ـ
عند "كل خُلق لما يُسر له"! فالزعيم ناصر كان بسماته وكارزيمته وانتماءه
للكادحين كأنه خُلق زعيما بما كان يتمتع به من خصائص الزعامة. وكان هو
أمينا ـ كأشد ما تكون الأمانة ـ مع تلكم الخصائص.. كان يحقق ذاته فى صدق،
وكان يجتهد أيما إجتهاد فى ذلك.
على العكس من ذلك، كان السادات
مضطربا، وكانت المقارنة بينه وبين الزعيم ناصر سيفا مسلطا فوق رقبته، وبدلا
من أن يبدع فى نفس الطريق الذى سلكه ناصر، استبدت به الرغبة فى أن يكون
مختلفا عنه ، فكان ما كان.!
والذى كان أخيرا أن تخرج علينا فتوى
من وزارة الأوقاف الإخوانية تنبه إلى أن إسرائيل ما هى إلا جارة لنا،
وعلينا معاملتها معاملة الجار الذى ظن رسولنا الكريم أن الله كاد أن يورثه
من فرط ما أوصاه الله به. أين الأذن المقطوعة لصاحب هذه الفتوى.؟ أين خبئها
وهو يدلى بفتواه تلك.؟
كل طائرة، وكل مركب تسير فى عرض البحر وفق
خريطة ملاحية معلومة للجميع.. معلومة لمن هم على متنها، ومعلومة لمن هم
محيطين بها، ومعلومة لمنع الصدام، أو يُجهل بخط سيرها لإحداث صدام محسوب فى
وقتٍ ومكان معلومين.!
أمامى الآن على شريط الجرافيك حكما لمحكمة القضاء الإدارى مؤداه:
تنفيذ الأحكام مسئولية الرئيس، والتنصل منها إخلال بواجبات الوظيفة".!
ما معنى هذا الحكم الذى حكمت به محكمة القضاء الإدارى غير أن الرئيس فشل فى تحقيق ذاته كرئيس .؟
التلون، والكذب اللذان قد تقتضيهما المناورات السياسية لا يتنافيان أبدا
مع "استقم كما أُمرت". والتلون والكذب هما غير هذا الذى نقصده من ضرورة
العمل على تحقيق الذات فى صدق.
قُتل السادات وهو بين جنوده فى عيد
النصر.. قتله التلون ومحاولاته المستميتة فى الالتفاف على ثوابت الآمه..
كان فى أواخر أيامه ذاتا أخرى غير التى جاءنا بها فى مقتبل حكمه.!
وسُجن مبارك، لأنه كان على غير ما هو عليه.. كان ذاتا منقسمة على نفسها..
حائرا بين سمات ذات جُبلت على أن تسمع وتطيع، وذات أخرى وجدت نفسها فى محل
صانع القرار وهى غير قادرة عليه.!
فماذا من مصير ينتظر حرباية متلونة فوق أغصان الشجرة الناصرية.؟
احترامى
على عبد الباقى
2 مايـــــــــــــو 2013